فصل: سنة تسعين وثلاثمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عظم أمر بدر بن حسنويه، وعلا شأنه، ولقب، من ديوان الخليفة، ناصر الدين والدولة، وكان كثير الصدقات بالحرمين، ويكثر الخرج على العرب بطريق مكة ليكفوا عن أذى الحجاج، ومنع أصحابه من الفساد وقطع الطريق، فعظم محله وسار ذكره.
وفيها نظر أبو علي بن أبي الريان في الوزارة بواسط.
وفيها مات أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الجكار. ثم دخلت:

.سنة تسع وثمانين وثلاثمائة:

.ذكر القبض على منصور بن نوح وملك أخيه عبد الملك:

في هذه السنة قبض على الأمير منصور بن نوح بن منصور الساماني، صاحب بخارى وما وراء النهر، وملك أخوه عبد الملك.
وسبب قبضه ما ذكرناه من قصد محمود بن سبكتكين بكتوزون بخراسان، وعوده عن نيسابور إلى مرو الروذ، فلما نزلها سار بكتوزون إلى الأمير منصور، وهو بسرخس، فاجتمع به فلم ير من إكرامه وبره ما كان يؤمله، فشكا ذلك إلى فائق، فقابله فائق بأضعاف شكواه، فاتفقا على خلعه من الملك، وإقامة أخيه مقامه، وأجابهما إلى ذلك جماعة من أعيان العسكر، فاستحضره بكتوزون بعلة الاجتماع لتدبير ما هم بصدده من أمر محمود، فلما اجتمعوا به قبضوا عليه، وأمر بكتوزون من سلمه فأعماه، ولم يراقب الله ولا إحسان مواليه، وأقاموا أخاه عبد الملك مقامه في الملك، وهو صبي صغير.
وكانت مدة ولاية منصور سنةً وسبعة أشهر. وماج الناس بعضهم في بعض، وأرسل محمود إلى فائق وبكتوزون يلومهما، ويقبح فعلهما، وقويت نفسه على لقائهما، وطمع في الاستقلال بالملك، فسار نحوهما عازماً على القتال.

.ذكر استيلاء يمين الدولة محمود بن سبكتكين على خراسان:

لما قبض الأمير منصور سار محمود نحو فائق وبكتوزون، ومعهما عبد الملك ابن نوح، فلما سمعوا بمسيره ساروا إليه، فالتقوا بمرو آخر جمادى الأولى، واقتتلوا أشد قتالٍ رآه الناس إلى الليل، فانهزم بكتوزون وفائق ومن معهما.
فأما عبد الملك وفائق فإنهما لحقا ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور، وقصد أبو القاسم بن سيمجور قهستان، فرأى محمود أن يقصد بكتوزون وأبا القاسم، ويعجلهما عن الاجتماع والاحتشاد، فسار إلى طوس، فهرب منه بكتوزون إلى نواحي جرجان، فأرسل محمود خلفه أكبر قواده وأمرائه وهو أرسلان الجاذب في عسكر جرار، فاتبعه حتى ألحقه بجرجان، وعاد فاستخلفه محمود على طوس، وسار إلى هراة.
فلما علم بكتوزون بمسير محمود عن نيسابور عاد إليها فملكها، فقصده محمود، فأجفل من بين يديه إجفال الظليم، واجتاز بمرو فنهبها، وسار عنها إلى بخارى، واستقر ملك محمود بخراسان، فأزال عنها اسم السامانية، وخطب فيها للقادر بالله، وكان إلى هذا الوقت لا يخطب له فيها، إنما كان يخطب للطائع لله، واستقل بملكها منفرداً، وتلك سنة الله تعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
وولى محمود قيادة جيوش خراسان أخاه نصراً، وجعله بنيسابور على ما كان يليه آل سيمجور للسامانية، وسار هو إلى بلخ، مستقر والده، فاتخذها دار ملكٍ، واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون، أصحاب الجوزجان، ونحن نذكرهم إن شاء الله تعالى، وكالشار الشاه، صاحب غرشستان، ونحن نذكر ها هنا أخبار هذا الشار، فاعلم أن هذا اللقب، وهو الشار، لقب كل من يملك بلاد غرشستان، ككسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشي للحبشة، وكان الشار أبو نصر قد اعتزل الملك وسلمه إلى ولده الشاه، وفيه لوثة وهوج، واشتغل والده أبو نصر بالعلوم ومجالسة العلماء.
ولما عصى أبو علي بن سيمجور على الأمير نوح أرسل إلى غرشستان من حصرها، وأجلى عنها الشاه الشار ووالده أبا نصر، فقصدا حصناً منيعاً في آخر ولايتهما، فتحصنا به إلى أن جاء سبكتكين إلى نصرة الأمير نوح، فنزلا إليه وأعاناه على أبي علي وعادا إلى ملكهما. فلما ملك الآن يمين الدولة محمود خراسان أطاعاه وخطبا له.
ثم إن يمين الدولة، بعد هذا، أراد الغزوة إلى الهند، فجمع لها وتجهز، وكتب إلى الشاه الشار يستدعيه ليشهد معه غزوته، فامتنع وعصى، فلما فرغ من غزوته سير إليه الجيوش ليملكوا بلاده، فلما دخلوا البلاد طلب والده أبو نصر الأمان، فأجيب إلى ذلك، وحمل إلى يمين الدولة فأكرمه، واعتذر أبو نصر بعقوق ولده، وخلافه عليه، فأمره بالمقام بهراة متوسعاً عليه إلى أن مات سنة اثنتين وأربعمائة.
وأما ولده الشاه فإنه قصد ذلك الحصن الذي احتمى به على أبي علي، فأقام به ومعه أمواله وأصحابه، فحصره عسكر يمين الدولة في حصنه، ونصبوا عليه المجانيق، وألحوا عليه بالقتال ليلاً ونهاراً، فانهدمت أسوار حصنه، وتسلق العسكر إليه، فلما أيقن بالعطب طلب الأمان، والعسكر يقاتله، فلم يزل كذلك حتى أخذ أسيراً، وحمل إلى يمين الدولة، فضرب تأديباً له، ثم أودع السجن إلى أن مات، وكان موته قبل موت والده.
ورأيت عدة مجلدات من كتاب التهذيب للأزهري في اللغة بخطه، وعليه ما هذه نسخته: يقول محمد بن أحمد بن الأزهري قرأ علي الشار أبو نصر هذا الجزء من أوله إلى آخره، وكتبه بيده صح. فهذا يدل على اشتغاله وعلمه بالعربية، فإن من يصحب مثل الأزهري، ويقرأ كتابه التهذيب، يكون فاضلاً.

.ذكر انقراض دولة السامانية وملك الترك ما وراء النهر:

في هذه السنة انقرضت دولة آل سامان على يد محمود بن سبكتكين، وايلك الخان التركي، واسمه أبو نصر أحمد بن علي، ولقبه شمس الدولة.
فأما محمود فإنه ملك خراسان، كما ذكرناه، وبقي بيد عبد الملك بن نوح ما وراء النهر، فلما انهزم من محمود قصد بخارى واجتمع بها هو وفائق وبكتوزون وغيرهما من الأمراء والأكابر، فقويت نفوسهم، وشرعوا في جمع العساكر، وعزموا على العود إلى خراسان، فاتفق أن مات فائق، وكان موته في شعبان من هذه السنة، فلما مات ضعفت نفوسهم، ووهنت قوتهم، فإنه كان هو المشار إليه من بينهم، وكان خصياً من موالي نوح بن نصر.
وبلغ خبرهم إلى ايلك الخان، فسار في جمع الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبد الملك المودة والموالاة، والحمية له، فظنوه صادقاً، ولم يحترسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيره من الأمراء والقواد، فلما اجتمعوا قبض عليهم، وسار حتى دخل بخارى يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فلم يدر عبد الملك ما يصنع لقلة عدده، فاختفى ونزل ايلك الخان دار الإمارة، وبث الطلب والعيون على عبد الملك، حتى ظفر به، فأودعه بافكند فمات بها، وكان آخر ملوك السامانية، وانقضت دولتهم على يده كأن لم تغن بالأمس، كدأب الدولة قبلها، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار. وحبس معه أخوه أبو الحرث منصور بن نوح الذي كان في الملك قبله، وأخواه أبو إبراهيم، إسماعيل، وأبو يعقوب ابنا نوح، وعماه أبو زكرياء وأبو سليمان، وغيرهم من آل سامان، وأفرد كل واحد منهم في حجرة.
وكانت دولتهم قد انتشرت وطبقت كثيراً من الأرض من حدود حلوان إلى بلاد الترك، بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدولة سيرةً وعدلاً، وعبد الملك هذا هو عبد الملك بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل كلهم ملكوا، وكان منهم من ليس مذكورا في هذا النسب؛ وعبد الملك بن نوح بن نصر ملك قبل أخيه منصور بن نوح المذكور، وكان منهم أيضاً منصور بن نوح بن منصور أخو عبد الملك هذا الأخير زال الملك في ولايته ولي قبله.

.ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوزستان:

في هذه السنة دخل الديلم الذين مع أبي علي بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة.
وكان سبب ذلك أن ابني بختيار لما قتلا صمصام الدولة، كما تقدم، وملكا بلاد فارس، كتاب إلى أبي علي بن أستاذ هرمز بالخبر، ويذكران تعويلهما عليه، واعتضادهما به، ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على من معه من الديلم، والمقام بمكانه، والجد بمحاربة بهاء الدولة. فخافهما أبو علي لما كان أسلفه إليهما من قبل أخويهما وأسرهما، فجمع الديلم الذين معه وأخبرهم الحال، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار ومقاتلة بهاء الدولة، فلم يوافقهم على ذلك، ورأى أن يراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم، فقالوا: إنا نخاف الأتراك، وقد عرفت ما بيننا وبينهم؛ فسكت عنهم وتفرقوا.
وراسله بهاء الدولة يستميله، ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان، وترددت الرسل، وقال بهاء الدولة: إن ثأري وثأركم عند من قتل أخي، فلا عذر لكم في التخلف عن الأخذ بثأره؛ واستمال الديلم فأجابوه إلى الدخول في طاعته، وأنفذوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه، وكبتوا إلى أصحابهم المقيمين بالسوس بصورة الحال.
وركب بهاء الدولة من الغد إلى باب السوس، رجاء أن يخرج من فيه إلى طاعته، فخرجوا إليه في السلاح، وقاتلوه قتالاً شديداً لم يقاتلوا مثله، فضاق صدره، فقيل له إن هذه عادة الديلم أن يشتد قتالهم عند الصلح، لئلا يظن بهم، ثم كفوا عن القتال وأرسلوا من يحلفه لهم، ونزلوا إلى خدمته، واختلط العسكران، وساروا إلى الأهواز، فقرر أبو علي بن إسماعيل أمورها، وقسم الإقطاعات بين الأتراك والديلم، ثم ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى أرجان وغيرها من بلاد خوزستان.
وسار أبو علي بن إسماعيل إلى شيراز، فنزل بظاهرها، فخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما، فحاربوه، فلما اشتدت الحرب مال بعض من معهما إليه، ودخل بعض أصحابه البلد، ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولاً من بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلما قتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلما سمع النداء بشعار بهاء الدولة ظن أن الفتح قد تم، فقصد الجامع، وكان يوم الجمعة، وأقام الخطبة لبهاء الدولة.
ثم عاد ابنا بختيار، واجتمع إليهما أصحابهما، فخاف النقيب، فاختفى، وحمل في سلةٍ إلى أبي علي بن إسماعيل؛ ثم إن أصحاب ابني بختيار قصدوا أبا علي وأطاعوه، فاستولى على شيراز، وهرب ابنا بختيار، فأما أبو نصر فإنه لحق ببلاد الديلم، وأما الثاني، وهو أبو القاسم، فلحق ببدر بن حسنويه، ثم قصد البطيحة.
ولما ملك أبو علي شيراز كتب إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار إليها ونزلها، فلما استقر بها أمر بنهب قرية الدودمان وإحراقها، وقتل كل من كان بها من أهلهم فاستأصلهم، وأخرج أخاه صمصام الدولة وجد أكفانه، وحمل إلى التربة بشيراز فدفن بها، وسير عسكراً مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان فملكها وأقام بها نائباً عن بهاء الدولة. إلى ها هنا آخر ما في ذيل الوزير أي شجاع، رحمه الله.

.ذكر مسير باديس إلى زناتة:

في هذه السنة، منتصف صفر، أمر باديس بن المنصور، صاحب إفريقية، نائبه محمد بن أبي العرب بالتجهز والاستكثار من العساكر والعدد، والمسير إلى زناتة.
وسبب ذلك أن عمه يطوفت كتب إليه يعلمه أن زيري بن عطية الملقب بالقرطاس، وقد تقدم ذكره، نزل عليه بتاهرت محارباً، فأمر محمداً بالتجهز إليه، فسار في عساكر كثيرة حتى وصل إلى أشير، وبها حماد بن يوسف عم باديس، وكان قد أقطعه إياها باديس، فرحل حماد معه، فوصل إلى تاهرت، واجتمعا بيطوفت، وبينهم وبين زيري بن عطية مرحلتان، فزحفوا إليه، فكانت بينهما حروب عظيمة.
وكان أكثر عسكر حماد يكرهونه لقلة عطائه، فلما اشتد القتال انهزموا، فتبعهم جميع العسكر، فأراد محمد بن أبي العرب أن يرد الناس، فلم يقدر على ذلك، وتمت الهزيمة، وملك زيري بن عطية مالهم وعددهم ورجعت العساكر إلى أشير.
وبلغ خبر الهزيمة إلى باديس، فرحل، فلما قارب طبنة بعث في طلب فلفل بن سعيد، فخاف، فأرسل يعتذر إليه، وطلب عهداً بإقطاع مدينة طبنة، فكتب له، وسار باديس، فلما أبعد قصد فلفل مدينة طبنة، وغلب على ما حولها، وقص باغاية فحصرها، وباديس سائر إلى أشير. فلما سمع زيري ابن عطية بأنه قد قرب منه رحل إلى تاهرت، فقصده باديس، فسار زيري إلى العرب. فلما سمع باديس برحيله استعمل عمه يطوفت على أشير، وأعطاه أموالاً وعدداً، وعاد إلى أشير، فبلغه ما فعل فلفل بن سعيد، فأرسل إليه العساكر، وبقي يطوفت ومعه أعمامه وأولاد أعمامه، فلما أبعد عنهم باديس عصوا، وخالفوا عليه، منهم ماكسن، وزاوي وغيرهما، وقبضوا على يطوفت، وأخذوا جميع ما معه من المال، فهرب من أيديهم وعاد إلى باديس.
وأما فلفل بن سعيد فإنه لما وصل إليه العسكر المسير إلى قتاله لقيهم وقاتلهم وهزمهم، وقتل فيهم، وسار يطلب القيروان. فسار عند ذلك باديس إلى باغاية، فلقيه أهلها، فعرفوه ما قاسوه من قتال فلفل، وأنه حصرهم خمسة وأربعين يوماً، فشكرهم، ووعدهم الإحسان، وسار يطلب فلفلاً، فوصل إلى مرمجنة، وسار فلفل إليه في جمع كثير من البربر وزناتة، ومعه كل من في نفسه حقد على باديس وأهل بيته، فالتقوا بوادي اغلان، وكان بينهم حرب عظيمة لم يسمع بمثلها، وطال القتال بينهم، وصبر الفريقان، ثم أنزل الله تعالى نصره على باديس وصنهاجة، وانهزم البربر وزناتة هزيمة قبيحة، وانهزم فلفل فأبعد في الهزيمة، وقتل من زويلة تسعة آلاف قتيل سوى من قتل من البربر، وعاد باديس إلى قصره، وفرح أهل القيروان لأنهم خافوا أن يأتيهم فلفل.
ثم إن عمومة باديس اتصلوا بفلفل، وصاروا معه على باديس، فلما سمع باديس بذلك سار إليهم، فلما وصل قصر الإفريقي وصله أن عمومته فارقوا فلفلاً، ولم يبق معه سوى ماكسن بن زيري، وذلك أول سنة تسعين وثلاثمائة.

.ذكر ملك الحاكم طرابلس الغرب وعودها إلى باديس:

كان لباديس نائب بطرابلس الغرب، فكاتب الحاكم بأمر الله بمصر، وطلب أن يسلم إليه طرابلس ويلتحق به، فأرسل إليه الحاكم يأنس الصقلي، وكان خصيصاً بالحاكم، وهو المتولي لبلاد برقة، فوصل يأنس وتسلم طرابلس وأقام بها، وذلك سنة تسعين.
فأرسل باديس إلى يأنس يسأله عن سبب وصوله إلى طرابلس، وقال له: إن كان الحاكم استعملك عليها فأرسل العهد لأقف عليه. فقال يأنس: إنما أرسلني معيناً ونجدةً إن احتيج إي، ومثلي لا يطلب منه عهد بولايةً لمحلي من دولة الحاكم. فسير إليه جيشاً، فلقيهم يأنس خارج طرابلس، فقتل في المعركة، وانهزم أصحابه ودخلوا طرابلس فتحصنوا بها.
وكان قد قتل منهم في المعركة كثير، ونزل عيهم الجيش وحصرهم، وأرسلوا إلى الحاكم يستمدونه، فجهز جيشاً عليهم يحيى بن علي الأندلسي، وسيرهم إلى طرابلس، وأطلق لهم مالاً على برقة، فلم يجد يحيى فيها مالاً، فاختلت حاله، فسار إلى فلفل، وكان قد دخل إلى طرابلس واستولى عليها، فأقام معه فيها، واستوطنها من ذلك الوقت. وسنذكر باقي خبرهم سنة ثلاث وتسعين.
وفي سنة إحدى وتسعين سار ماكسن بن زيري، عم أبي باديس، إلى أشير، وبها ابن أخيه حماد بن يوسف بلكين، فكان بينهما حرب شديدة قتل فيها ماكسن وأولاده محسن، وباديس، وحباسة، وتوفي زيري بن عطية بعد قتل ماكسن بتسعة أيام.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، عاشر ربيع الأول، انقض كوكب عظيم ضحوة نهار.
وفيها عمل أهل باب البصرة يوم السادس والعشرين من ذي الحجة زينة عظيمة وفرحاً كثيراً، وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء، وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب، وتعلق الثياب للزينة، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم الغدير، وكانوا يعملون يوم عاشوراء في المأتم، والنوح، وإظهار الحزن ما هو مشهور، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك، بعد يوم الغدير بثمانية أيام، مثلهم وقالوا: هو يوم دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، رضي الله عنه، والغار؛ وعملوا بعد عاشوراء بثمانية أيام مثل ما يعملون يوم عاشوراء، وقالوا: هو يوم قتل مصعب بن الزبير.
وتوفي هذه السنة أحمد بن محمد بن عيسى أبو محمد السرخسي المقريء الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي إسحاق المروزي، وله رواية للحديث أيضاً، وكان شيخ خراسان في زمانه، وقرأ القرآن على ابن مجاهد، والأدب على ابن الأنباري، ومات وله ست وتسعون سنة؛ وعبدالله بن محمد بن إسحاق ابن سليمان أبو القاسم البزاز، المعروف بابن حبابة، وكان شيخ الحنابلة في زمانه. ثم دخلت:

.سنة تسعين وثلاثمائة:

.ذكر خروج إسماعيل بن نوح وما جرى له بخراسان:

في هذه السنة خرج أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه، وكان قد حبسه ايلك الخان لما ملك بخارى مع جماعة من أهله.
وسبب خلاصه أنه كانت تأتيه جارية تخدمه، وتتعرف أحواله، فلبس ما أن عليها وخرج، فظنه الموكلون الجارية، فلما خرج استخفى عند عجوز من أهل بخارى، فلما سكن الطلب عنه سار من بخارى إلى خوارزم، وتلقب المنتصر، وجامع إليه بقايا القواد السامانية والأجناد، فكثف جمعه، وسير قائداً من أصحابه في عسكر إلى بخارى، فبيت من بها من أصحاب ايلك الخان، فهزمهم وقتل منهم، وكبس جماعة من أعيانهم، مثل جعفر تكين وغيره، وتبع المنهزمين نحو ايلك الخان إلى حدود سمرقند، فلقي هناك عسكراً جراراً جعلهم ايلك الخان يحفظون سمرقند، فانضاف إليهم المنهزمون، ولقوا عسكر المنتصر، فانهزم أيضاً عسكر ايلك الخان، وتبعهم عسكر المنتصر، فغنموا أثقالهم فصلحت أحوالهم بها، وعادوا إلى بخارى، فاستبشر أهلها بعود السامانية.
ثم إن ايلك جمع الترك وقصد بخارى، فانحاز من بها من السامانية وعبروا النهر إلى آمل الشط، فضاقت عليهم، فساروا هم والمنتصر نحو أبيورد فملكها، وجبوا أموالها،وساروا نحو نيسابور، وبها منصور بن سبكتكين، نائباً عن أخيه محمود، فالتقوا قرب نيسابور في ربيع الآخر، فاقتتلوا، فانهزم منصور وأصحابه، وقصدوا هراة، وملك المنتصر نيسابور، وكثر جمعه.
وبلغ يمين الدولة الخبر، فسار مجداً نحو نيسابور، فلما قاربها سار عنها المنتصر إلى أسفرايين، فلما أزعجه الطلب سار نحو شمس المعالي قابوس ابن وشمكير وملتجئاً إيه ومتكثراً به، فأكرمه مورده، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأشار على المنتصر بقصد الري إذ كانت ليس بها من يذب عنها، لاشتغال أصحابها باختلافهم، ووعده بأن ينجده بعسكر جرار مع أولاده، فقبل مشورته وسار نحو الري، فنازلها، فضعف من بها عن مقاومته، إلا أنهم حفظوا البلد منه، ودسوا إلى أعيان عسكره كأبي القاسم بن سيمجور وغيره، وبذلوا لهم الأموال ليردوه عنهم، ففعلوا ذلك، وصغروا أمر الري عنده وحسنوا له العود إلى خراسان. فسار نحو الدامغان، وعاد عنه عسكر قابوس.
ووصل المنتصر إلى نيسابور في آخر شوال سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، فجبى له الأموال بها، فأرسل إليه يمين الدولة جيشاً فلقوه، فانهزم المنتصر وسار نحو أبيورد، وقصد جرجان، فرده شمس المعالي عنها، فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها. فسار إليه منصور بن سبكتكين من نيسابور، فالتقوا بظاهر سرخس واقتتلوا، فانهزم المنتصر وأصحابه، وأسر أبو القاسم علي ابن محمد بن سيمجور وجماعة من أعيان عسكره، وحملوا إلى المنصور، فسيرهم إلى غزنة، وذلك في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين.
وسار المنتصر تائهاً حتى وافى الأتراك الغزية ولهم ميل إلى آل سامان، فحركتهم الحمية، واجتمعوا معه، وسار بهم نحو ايلك الخان، وكان ذلك في شوال سنة ثلاث وتسعين، فلقيهم ايلك بنواحي سمرقند، فهزموه واستولوا على أمواله وسواده، وأسروا جماعة من قواده وعادوا إلى أوطانهم، واجتمعوا على إطلاق الأسرى تقرباً إلى ايلك الخان بذلك. فعلم المنتصر، فاختار من أصحابه جماعة يثق بهم، وسار بهم، فعبر النهر، ونزل بآمل الشط، فلم يقبله مكان، وكلما قصد مكاناً رده أهله خوفاً من معرته، فعاد وعبر النهر إلى بخارى، وطلب واليها لايلك الخان، فلقيه واقتتلوا، فانهزم المنتصر إلى دبوسية وجمع بها، ثم عاودهم فهزمهم، وخرج إليه خلق كثير من فتيان سمرقند، وصاروا في جملته، وحمل له أهلها المال والآلات والثياب والدواب وغير ذلك.
فلما سمع ايلك الخان بحاله جمع الأتراك وسار إليه في قضه وقضيضه، والتقوا بنواحي سمرقند، واشتدت الحرب بينهم، فانهزم ايلك الخان، وكان ذلك في شعبان سنة أربع وتسعين، وغنموا أمواله ودوابه. وعاد ايلك الخان إلى بلاد الترك، فجمع وحشد وعاد إلى المنتصر، فوافق عوده تراجع الغزية الذين كانوا مع المنتصر إلى أوطانهم، وقد زحف جمعه، فاقتتلوا بنواحي أسروشنة، فانهزم المنتصر، وأكثر الترك في أصحابه القتل.
وسار المنتصر منهزماً، حتى عبر النهر، وسار إلى الجوزجان فنهب أموالها، وسار يطلب مرو، فسير يمين الدولة العساكر، ففارق مكانه وسار وهم في أثره، حتى أتى بسطام، فأرسل إليه قابوس عسكراً أزعجه عنها، فلما ضاقت عليه المذاهب عاد إلى ما وراء النهر، فعبر أصحابه وقد ضجروا وسئموا من السهر والتعب والخوف، ففارقه كثير منهم إلى بعض أصحاب ايلك الخان، فأعلموهم بمكانه، فلم يشعر المنتصر إلا وقد أحاطت به الخيل من كل جانب، فطاردهم ساعة ثم ولاهم الدبر وسار فنزل بحلة من العرب في طاعة يمين الدولة، وكان يمين الدولة قد أوصاهم بطلبه، فلما رأوه أمهلوه حتى أظلم الليل، ثم وثبوا عليه فأخذوه وقتلوه، وكان ذلك خاتمه أمره؛ وإنما أوردت الحادثة هذه السنة لترد متتابعة، فلو تفرقت في السنين لم تعلم على هذه الصورة لقلتها.

.ذكر محاصرة يمين الدولة سجستان:

في هذه السنة سار يمين الدولة إلى سجستان، وصاحبها خلف بن أحمد، فحصره بها.
وكان سبب ذلك أن يمين الدولة لما اشتغل بالحروب التي ذكرناها سير خلف بن أحمد ابنه طاهراً إلى قهسنان فملكها، ثم سار منها إلى بوشنج فملكها، وكانت هي وهراة لبغراجق، عم يمين الدولة، فلما فرغ يمين الدولة من تلك الحروب استأذنه عمه في إخراج طاهر بن خلف من ولايته، فأذن له في ذلك، فسار إليه، فلقيه طاهر بنواحي بوشنج، فاقتتلوا، فانهزم طاهر ولج بغراجق في طلبه، فعطف عليه طاهر فقتله ونزل إليه وأخذ رأسه.
فلما سمع يمين الدولة بقتل عمه عظم عليه، وكبر لديه، وجمع عساكره وسار نحو خلف بن أحمد، فتحصن منه خلف بحصن أصبهبذ، وهو حصن يناطح النجوم علواً وارتفاعاً، فحصره فيه وضيق عليه، فذل وخضع، وبذل أموالاً جليلة لينفس عن خناقه، فأجابه يمين الدولة إلى ذلك، وأخذ رهنه على المال.

.ذكر قتل ابن بختيار بكرمان واستيلاء بهاء الدولة عليها:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، قتل الأمير أبو نصر بن بختيار، الذي كان قد استولى على بلاد فارس.
وسبب قتله أنه لما انهزم من عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الديلم، وكاتب الديلم بفارس وكرمان من هناك يستميلهم، وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس، واجتمع عليه جمع كثير من الزط، والديلم، والأتراك، وتردد في تلك النواحي، ثم سار إلى كرمان، فلم يقبله الديلم الذين بها، وكان المقدم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجمع وقصد أبا جعفر، فالتقيا، فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها، وملك أكثر كرمان، فعظم الأمر على بهاء الدولة، فسير إليه الموفق علي بن إسماعيل في جيش كثير، وسار مجداً حتى أطل على جيرفت، فاستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها. فأنكر عليه من معه من القواد سرعة سيره، وخوفوه عاقبة ذلك، فلم يصغ إليهم، وسأل عن حال ابن بختيار، فأخبر أنه على ثمانية فراسخ من جيرفت، فاختار ثلاثمائة رجل من شجعان أصحابه وسار بهم، وترك الباقين مع السواد بجيرفت.
فلما بلغ ذلك المكان لم يجده ودل عليه فلم يزل يتبعه من منزل، حتى لحقه بدارزين، فسار ليلاً، وقدر وصوله إليه عند الصبح فأدركه. فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالاً شديداً، وسار الموفق في نفر من غلمانه، فأتى ابن بختيار من ورائه، فانهزم ابن بختيار وأصحابه، ووضع فيهم السيف، فقتل منهم الخلق الكثير. فقدر بابن بختيار بعض أصحابه، وضربه بلت فألقاه وعاد إلى الموفق ليخبره بقتله، فأرسل معه من ينظر إليه، فرآه وقد قتله غيره، وحمل رأسه إلى الموفق.
وأكثر الموفق القتل في أصحاب ابن بختيار، واستولى على بلاد كرمان، واستعمل عليها أبا موسى سياهجيل، وعاد إلى بهاء الدولة، فخرج بنفسه ولقيه، وأكرمه وعظمه ثم قبض عليه بعد أيام.
ومن أعجب ما يذكر أن الموفق أخبره منجم أنه يقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلما كان قبل الاثنين بخمسة أيام قال للمنجم: قد بقي خمسة أيام وليس لنا علم به؛ فقال له المنجم: إن لم تقتله فاقتلني عوضه، وإلا فأحسن إلي. فلما كان يوم الاثنين أدركه وقتله، وأحسن إلى المنجم إحساناً كثيراً.